فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {فَنَسِيَ} فيه للعلماء معروفان: أحدهما- أن المراد بالنسيان الترك، فلا ينافي كون الترك عمدًا. والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدًا، ومنه قوله تعالى: {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] فالمراد في هذه الآية: الترك قصدًا. وكقوله تعالى: {فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]، وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هاذآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أولئك هُمُ الفاسقون} [الحشر: 19]، وقوله تعالى: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الجاثية: 34]. وعلى هذا فمعنى قوله: {فَنَسِيَ} أي ترك الوفاء بالعهد، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
والوجه الثاني هو أن المراد بالنسيان في الآية: النسيان الذي هو ضد الذكر، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها- غره وخدعه بذلك، حتى أنساه العهد المذكور. كما يشير إليه قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 21-22]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم اهـ.
ولقد قال بعض الشعراء:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ** ولا القلب إلا أنه يتقلب

أما على القول الأول فلا إشكال في قوله: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وأما على الثاني ففيه إشكال معروف. لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى}. وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك: أن آدم لم يكن معذورًا بالنسيان. وقد بينت في كتابي دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة. كقوله هنا {فَنَسِيَ} مع قوله: {وعصى} فأسند إليه النسيان والعصيان، فدل على أنه غير معذور بالنسيان. ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله نعم قد فعلت. فلو كان ذلك معفوًا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع. ويستأنس لذلك بقوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ويؤيد ذلك حديث: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». فقوله: «تجاوز لي عن أمتي» يدل على الاختصاص بأمته. وليس مفهوم لقب. لأن مناط التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل. والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة. ولم يزل علماء الأمة قديمًا وحديثًا يتلقونه بالقبول. ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابًا قتلوه. فدل ذلك على أن الذي قربه مكره. لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرًا. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] فقوله: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} دليل على الإكراه، وقوله: {وَلَن تفلحوا إِذًا أَبَدًا} دليل على عدم العذر بذلك الإكراه. كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع.
واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة، كقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] الآية. فتحرير رقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ. والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة. كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] فجعل صوم الشهرين بدلًا من العتق عند العجز عنه. وقوله بعد ذلك {تَوْبَةً مِّنَ الله} يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ، مع قوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وما قدمنا من حديث مسلم: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله نعم قد فعلت، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة والكفارة المذكورة. قال بعض أهل العلم: هي بسبب التقصير في التحفظ والحذر من وقوع الخطإ والنسيان، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ. لأنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما تيعلق بالتبليغ.
واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافًا مشهورًا معروفًا في الأصول. ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك. كما قال هنا: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] ثم أتبع ذلك بقوله: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35] وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم جميع الرسل. وعن ابن عباس وقتادة {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي لم نجد له صبرًا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر. وأقوال العلماء راجعة إلى هذا، والوجود في قوله: {لَمْ نَجِدْ} قال أبو حبان في البحر: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه {لَهُ عَزْمًا} وأن يكون نقيض العدم. كأنه قال: وعدّ مناله عزمًا. اهـ منه. والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. أي أبى أن يسجد. فذكر عنه هنا الإباء ولم يذكر عنه هنا الاستكبار. وذكر عنه الإباء أيضًا في الحجر في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 31]. وقوله في آية الحجر هذه {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} يبين معمول أبى المحذوف في آية طه هذه التي هي قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} أي أبى أن يكون مع الساجدين، كما صحر به في الحجر وكما أشار إلى ذلك في الأعراف في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الأعراف: 11] وذكر عنه في سورة ص الاستكبار وحده في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [ص: 74]، وذكر عنه الإباء والاستكبار معًا في سورة البقرة في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34]. وقد بينا في سورة البقرة سبب استكباره في زعمه وأدلة بطلان شبهته في زعمه المذكور. وقد بينا في سورة الكهف كلام العلماء فيه. هل أصله ملك من الملائكة أو لا؟
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} صرح في غير هذا الموضع أن السجود المذكور سجده الملائكة كلهم أجمعون لا بعضهم، وذلك في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: 30-31] الآية.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكهف فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فتشقى} أي فتتعب في طلب المعيشة بالكد والاكتساب. لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض، ثم يزرعها، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك، ثم يدسه، ثم ينقيه، ثم يطحنه، ثم يعجنه، ثم يخبره. فهذا شقاؤه المذكور.
والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية: التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع والري، والكسوة والسكن. قال الزمخشري: وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا. وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها اهـ.
فقوله في هذه الآية الكريمة: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع والظمأ والعري والضحاء. والجوع معروف، والظمأ: العطش. والعري بالضم: خلاف اللبس.
وقوله: {وَلاَ تضحى} أي لا تصير بارزًا للشمس، ليس لك ما تستكن فيه من حرها. تقول العرب: ضحى يضحى، كرضي يرضى. وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزًا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه. ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت ** فيضحي وأما بالعشي فينحصر

وقول الآخر:
ضحيت له كي أستظل بظله ** إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعًا وشعبة عن عاصم {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ} بفتح همزة أن، والمصدر المنسبك من أن وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ} أي وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب والرفع، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
وجائز رفعك معطوفًا على ** منصوب إن بعد أن تستكملا

وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين: إن لك عدم الجوع فيها، وعدم الظمأ.
تنبيه:
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} بخطاب شامل لآدم وحواء، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله: {فتشقى} دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها: من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا- يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج. فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية: أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام، والشراب، والكسوة، والمسكن. فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور. فأما هذه الأربعة فلابد منها. لأن بها إقامة المهجة. اهـ منه.
وذكر في قصة آدم: أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح للعرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية.
والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين، هو ما يسمى «مراعاة النظير»، ويسمى «التناسب والائتلاف. والتوفيق والتلفيق». فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي. وضابطه: أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد. كقوله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] فإن الشمس والقمر متناسبان لا بالتضاد. وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل، أي الرماح:
كالقسي المعطفات بل ال ** أسهم مبرية بل الأوتار

وبين الأسهم والقسي المعطفات والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض، وهي مناسبة لا بالتضاد. وكقول ابن رشيق:
أصح وأقوى ما سمعناه في الندى ** من الخير المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا ** عن البحر عن كف الأمير تميم

فقد ناسب بين الصحة والقوة، والسماع والخبر المأثور، والأحاديث والرواية، وكذا ناسب بين السيل والحيا وهو المطر، والبحر وكف الأمير تميم، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري:
كأن للثريا علقت في جبينه ** وفي خده الشعري وفي جهة البدر

فقد ناسب بين الثريا والشعري والبدر، كما ناسب بين الجبين والوجنة والوجه. وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة.
وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله: {نَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية والألم الباطني الوجداني، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر والبرد، وهي مناسبة لا بالتضاد. كما أنه تعالى ناسب في قوله: {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ.
وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح.
بما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن في الآية المذكورة ما يسمع قطع النظير عن النظير، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها. لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بين ذلك من التناسب. وقالوا: ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جوادًا للذة ** ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبا الزق الروي ولم أقل ** لخيل كرى كرة بعد إجفال

فقطع ركوب الجواد من قوله: «لخيل كرى كرة» وقطع «تبطن الكاعب» عن شرب «الزق الروي» مع التناسب في ذلك. وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها. كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}.
لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفًا عند قوله: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرًا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا} [طه: 99، 100] فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريبًا عند قوله: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} [طه: 114]؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرّض له به الشيطان، تحقيقًا لفائدة قوله: {وقل رب زدني علمًا} [طه: 114].
فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ.
والكلام معطوف على جملة {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق}.
وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهًا على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله، كما قال فيها {ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا أفطال عليكم العهد} [طه: 86]، وفي قصة آدم تفريطًا في العهد أيضًا.